ليوميات راشيل كورى مدخل خاص ربما كتبته فى وقت ما فى 1999، إى قبل أربع سنوات من قتلها بواسطة جراف "لإسرائيلى فى غزة وهى تحاول منع هدم منازل فلسطينية. وهى تبلغ من العمر 19 أو 20عاما. كتبت تقول: حلمت بأنى أسقط، أسقط إلى حيث حتفى من شيء أغبر وأملس ومتفتت كالصخور الجرفية فى ولاية يوتا "لكنى واصلت التشبث بقوة وكلما تحطم موطئ قدم أو جزء من الصخرة مددت يدى وأنا أهوى وأمسكت بغيرها. ولم يكن لدى وقت للتفكير فى أى شيء وتصرفت كما لو كنت ألعب بجهاز الفيديو. سمعت صوتا يقول 'لا يمكن أن أموت' تردد مرارا فى أذني.فى العام الماضى طلب منى مسرح البلاط الملكى أن أنشر كتابات راشيل كورى وأحولها إلى عمل مسرحى بمعية ألان ريكمان الذى كان هو المخرج أيضا. وقد قرأت الرسائل الإلكترونية المثيرة التى بعثت بها إلى عائلتها من غزة وتم نشرها فى شكل فصول متسلسلة خلال الأيام التى أعقبت موتها. كما قرأت روايات لشهود عيان على شبكة الانترنت، لكنى لم أكن أعرف كتابات راشيل الأولى حتى قبل أن تفكر فى الذهاب إلى الشرق الأوسط. ومنذ الوقت الذى كانت فيها تلميذة بالمدرسة. مرورا بالفترة الجامعية، إلى أن انتقلت إلى الحياة المهنية فى مركز لعلاج الأمراض العقلية بمسقط رأسها مدينة أولمبيا من ولاية واشنطن- فإنها ستبدو رائعة وتتصف بخصال من الحدس الذى يجلب الانتباه. كما لم اكن أفهم أى صنف من البشر هي: كانت راشيل كورى تدخن بشراهة، نحيفة وفوضوية ومغرمة بموسيقى عاشقة لسلفادور دالى وتهوى موسيقى بات بنتار' . لقد اكتشفت كل ذلك لاحقا.قتلت راشيل وهى فى 23 وذلك يوم 16 مارس 2003 بواسطة جراف من نوع كاتربيلر D9 ، وهى عربة ضخمة صنعت خصيصا لهدم المنازل. كان والدها قبل ثلاثة عقود من الزمن يقود جرافات الفيتنام فى خدمة الجيش الأمريكي. أما موتها فكان هو الأول فى سلسلة أعمال لقتل الغربيين فى غزة خلال ربيع 2003، عندما كانت الحرب تدور رحاها فى العراق: البريطانى توم هورندال، 22 سنة، الذى أطلقت عليه النار يوم 11 أفريل، ثم بريطانى آخر هو المصور جيمس ميلر، 34 سنة، وقد أردى قتيلا فى 16 ماى . أما هى وهورندال فكان ناشطين من أعضاء حركة التضامن الدولية، وهى منظمة تأسست لدعم المقاومة الفلسطينية السلمية ضد الاحتلال الإسرائيلي. وهكذا قتلت راشيل قبل يومين فقط من بدء العدوان على بغداد، عندما كان العالم فى جلّه يتجه بأنظاره وجهة أخري.لقد أصبحت الآن شهيدة من شهداء الفلسطينيين وإحدى ضحايا انتفاضتهم؛ واجهت الجيش الإسرائيلى العتيد وأثنى إدوارد سعيد على ما قامت به من "أعمال بطولية وجديرة بالتكريم دون ريب". بيد أن الكثير من الإسرائيليين اعتبروها فى أحسن الأحوال، فتاة ساذجة زجت بنفسها فى وضع لم تكن تفهمه. أما بالنسبة لبعض الأمريكيين فهى خائنة، إذ ذكرت بعض مواقع الانترنت بأنه "لابد أن تحترق فى نار جهنم إلى الأبد. فهى بموتها تمثل خلاصا جيدا من فضلات خبيثة، وإنى أشعر بالغبطة لموتها".وبالنسبة للمقربين من راشيل، فإنهم تمنوا لو أنها لم تصبح ذائعة الصيت أكثر من كونها مجرد فتاة أمريكية شقراء كانت نهايتها القتل، على حد تعبير صديقها السابق كولين ريز وذلك فى البرنامج الوثائقي: "موت إنسان مثالي": "إن الشخص الذى عرفته قد اختزل فى طرف طلقة رصاص… وكل ما مثلته راشيل من أشياء، وكل فكرة عبقرية جالت برأسها وكل مشروع فنى أنجزته ليس له أهمية ، لأنها صنعت موتها بنفسها. وقد انتحر ريز فى العام الماضي.إن ما قصدناه من إعداد مسرحية "اسمى راشيل كوري" "التى عرضت فى مسرح رويال كورت" فى لندن" مؤخرا**" هو الكشف عن المرأة الشابة من خلال الرمز السياسى الذى يتجاوز موتها. ومثلما يقول ألان ريكمان الذى كان مقررا أن يحول عمل راشيل إلى مسرحية: "لم نكن نقصد تقديم راشيل فى صورة قديس ذهبى أو نجعلها موضع شفقة وعطف، لكن توجب علينا أيضا أن نواجه حقيقة أنه جرى تصويرها فى هيئة شيطان. كنا نريد عرض صورة متوازنة. آملين أن نعرف الشيء الذى جعل راشيل كورى مختلفة عن صنف الشباب الاستهلاكي، غير المسيس الشائع الآن. وبعد الحصول على إذن من والديها لتحويل ما كتبته إلى عمل مسرحي، صلتنا حزمة ضخمة من 184 صفحة تضم كتاباتها التى لم يكن معظمها قد قريء من قبل".إن الوثائق تكشف أنها كانت فتاة عادية وغير عادية فى الوقت ذاته؛ فهى كانت تكتب قصائد عن قطتها وعن أصدقائها وجدتها، وعن الريح؛ وأيضا، ومنذ نعومة أظفارها كانت شديدة الاهتمام بما يجرى فى العالم محاولة إيجاد مكان لها فيه. وكانت المواضيع الأولى سياسية. وإذ لم تتجاوز العاشرة من عمرها، كتبت راشيل قصيدة عن "الأطفال الذين يتعذبون فى كل مكان"، وكيف ظلت تتمنى "زوال المجاعة بحلول سنة 2000". إن حداثتها كما يقول ريكمان "تبين أنها كانت فعلا على معرفة بماهية اللغة. وهى الذكية ومؤلفة قصص وذات النزعة الخيالية". كما تبدو أيضا جذابة، مهذبة وعارفة بالعالم الأرحب وموضعها فيه. وفى سن الثانية عشرة، كتبت تقول: "أعتقد أنى كبرت قليلا، وعلى كل حال فإن الأشياء نسبية، وتسعة أعوام قد تكون بطول 40 عاما. وذلك يتوقف على المدة التى يعيشها المرء".فى سنوات المراهقة، بدأت راشيل تكتب عن "النار فى بطني" والتى سوف تصبح فيما بعد موضوعا مكررا. زارت روسيا فى رحلة فتحت عينيها على بقية العالم الذى وجدته "خاطئا، قذرا، متهالكا ومتفخما فى الآن نفسه." وقد شاركت والديها وبشكل مثير، فى الكتابة المعبرة بأسلوب جميل عن مشاعر القلق الشائعة حول السلامة والحرية وهو ما يصبح ساخرا بجلاء فى ضوء الميتة القاسية التى أنهت حياة راشيل. وفى سن التاسعة عشرة كتبت إلى أمها تقول "أعرف أنى أخيفك… غير أنى أريد أن أكتب وأن أري. وما عساى أن اكتب إن بقيت لا أبرح بيت الدمى ودنيا الأزهار التى نشأت وترعرعت فيها؟ …أنا أحبك يا أمى ولكنى أنا الآن أصبحت أكبر وأكبر خارج ما منحتني: دعينى أقاتل هؤلاء الوحوش". إنى أحبك، فأنت من صنعني، أنت من وهبنى الوجود".كان ينتابها القلق حول مصيرها أسوة بمن فى عمرها من سنين فترة المراهقة: كتبت عن الرجال والجنس، وعن الوقوع فى غرام شخص دائم الهجر… ويردد حكاوى تشبه أغانى البلوز إلى الخصام بين صديق سابق وعشيقته الجديدة الحمارية المزاج. وكانت فطنتها تنزع نحو روح الدعابة والتهكم وهو ما يتذكره أصدقائها عنها كصفة بارزة فيها.لقد تسارع نسق التطور السياسى لدى راشيل فى بداية سنوات العشرين من عمرها: ذهبت إلى معهد إفرغرين الحكومى وهو عبارة عن مؤسسة جامعية شهيرة بنزعتها التحررية وهناك: بدأت تنتقد واقع التعبير عن المستوى الأعلى للبشرية من خلال ما يقع شراءه من المتاجر الكبيرة الفخمة. وبعد الحادى عشر من سبتمبر انصرفت إلى النشاط الجمعياتى وذلك بتنظيم المسيرات الداعية إلى السلام، لكنها شككت فى جدوى ما كانت تقوم به فكتبت مرة تقول: "الناس يعرضون أنفسهم كدروع بشرية فى فلسطين وأنا أمضى كامل وقتى فى صنع الدمى الكبيرة". وعندما قررت فى النهاية الذهاب إلى الشرق الأوسط شرحت دوافعها بذلك بمنتهى الدقة: "لدى شيء كامن فى نفسى يدعونى إلى الذهاب إلى مكان ألاقى فيه أناسا يعيشون فى الجانب لآخر من حصة الضريبة التى أدفعها وتذهب لتمويل الجيش الأمريكى وسواه من الجيوش".وعندما وصلت راشيل إلى رفح فى قطاع غزة مثلما يذكر ريكمان، "تغير نسق الكتابة لديها بشكل مثير، إذ أصبح لديها وقت أقل للتفكير، لكن مع ذلك، بوسعك أن تشعر بخوفها المتزايد". وكانت الرسائل التى بعثت بها من غزة قوية، مكثفة معبرة عن تجربة عميقة. وحين وصولها إلى القدس هالتها رؤية نجمة داود المرسومة بالمرشة على الأبواب فى القسم العربى من المدينة العتيقة: "لم يسبق لى أن رأيت هذا الرمز مستعملا بهذا الشكل : فأنا معتادة على رؤية الصليب مرسوما ومستغلا بكيفية تذكر بالاستعمار".وفى غزة حملت جثمان رجل قتيل على نقالة الموتي، بينما كان الجيش الإسرائيلى يطلق الرصاص أمامها، ولكن نشاطها كان فى الغالب يجد الحماية من خلال البقاء كامل الليل داخل منازل العائلات المتواجدة على خط المواجهة من أجل التصدى لعمليات هدمها، والوقوف لحماية من كانوا يستخرجون الماء عند بئر فى رفح خوفا من تعرضهم لإطلاق النار عليهم، "فتكون قريبة منهم بما يكفى لترد عنهم تناثر الركام على وجوههم". "قبل موتها، كانت راشيل تعتقد مثلها مثل الكثير من الناشطين أن صفة الإنسان الأبيض التى تتمتع بها سوف تجعلها فى مأمن نسبيا من الخطر". وإن معاينة الاحتلال وهو يقوم بنشاطه الهدام قد ألهم راشيل أقوى ما كتبته، ففى أيامها الأخيرة أدى غضبها وارتباكها إزاء ما شاهدته إلى عمل ذى زخم تراكمى مدهش.بيد أن مقدار ما أبدعته أثار فينا جملة من التساؤلات: كم سنحفظ من حياة راشيل قبل ذهابها إلى غزة؟ وهل يجدر بنا أن نستشهد بأناس آخرين؟فمن مسرحية دافيد هير "الطريق الدائم إلى بريطانيا العهد الفكتوري" ومسرحية "غوانتنامو" لجيليان سلوفو، كان الاتجاه فى المسرح السياسى صحافيا يتميز باستخدام الشهادات والمقابلات والمواد المسجلة ولم يكن يعتمد مجرد التخيل؛ لكن بالنسبة إلينا نحن، فليس بوسعنا أو لدينا فرصة لإعادة المقابلات لملء الفراغ. كان لدينا عدد محدود من الكلمات نتصرف فيها وراشيل قد رحلت عنا الآن: وكنت حريصا على الاستفادة من بعض الرسائل الإلكترونية التى بعث بها والدا راشيل، سيندى وكريغ، إلى ابنتهما وهى فى غزة. وهى رسائل حافلة بذلك النوع من المخاوف التى يمكن أن تنتاب أى والدين إذا كان ابنهما يمر بوضع حرج، ولكن وبما أن راشيل لم تعد إلى أرض الوطن، فإن هذه الرسائل كانت قوية لاذعة بشكل عنيف. وقبل أسبوعين من وفاة ابنتها، بعثت سيندى برسالة إلكترونية إليها تقول فيها: "فى قلبى الكثير، لكنى لا أجد الكلمات لتسلمى وتكونى بخير. هل تفكرين فى العودة إلى البيت؟ بسبب الحرب وكل شيء آخر؟ أنا أعرف أن الجواب قد يكون بالنفي. ولكنى أرجو أن تدركى أنه سوف يكون من الأفضل لو فعلت ذلك".وماذا عن أصوات أصدقاء راشيل؟ لقد أجريت مقابلات عديدة مع ناشطين أعضاء فى حركة التضامن الدولية تم إبعادهم من إسرائيل منذ وفاتها. كما شاهدنا شرائط وثائقية عن الموضوع أهمها "مجال القتل" لساندرا جوردن وفكرنا فى اقتباس مقتطفات من شريط الفيديو، لكن فى النهاية وباستثناء بعض النصوص القصيرة التى تعرض شهادات والديها ورواية شاهد عيان لموتها، كانت كلماتها من القوة بما يكفى لنفهم مدى صمودها وهى وحيدة.كان التحدى الذى واجهنا هو محاولة بناء مسرحية انطلاقا من قصاصات من مجلات وخطابات ورسائل إلكترونية لم يكتب أى منها بقصد التمثيل المسرحي. وكما قال ريكمان فقد ساعدنا كون كتابة راشيل "تكتسب نوعا من الأسلوب المسرحي"، إذ أن الصور تقفز من الصفحات. ومع تقدم الجهد فى الإعداد للعمل أصبح الفرق بين عملى الاعتيادي، أى الصحافة، والمسرح واضحا. فالصناعة المسرحية هى التى تجعل من المسرح مسرحا، وليس هناك من فائدة تذكر لخلق مشاهد تكون قراءتها جيدة على الورق إذا كانت الممثلة فى دور راشيل، وهى ميغان دودس. لا تستطيع أداءها على المسرح.لقد سعينا وحرصنا على أن ننصف راشيل ليس باعتبارها قديسة ولا خائنة، ولكن بصفاتها المتناقضة: الجدية منها والمسلية، الفوضوية والعبقرية، ذات البصيرة النافذة بقوة والإنسانية الدافقة وبكل شيء؛ وبتعبير آخر وحسب قولها هى نفسها: "مشتتة، منحرفة وشديدة الصراخ". لقد اخترنا كلمات راشيل وليس ما قاله آلاف الضحايا من الفلسطينيين أو الإسرائيليين وذلك بالنظر لكتاباتها الجيدة وسهولة النفاذ إليها كما يقول ريكمان: "إن الجانب النشيط فى حياتها ينسجم تماما مع جانب الخيال لديها. وأنا واثق من أنها لو كتب لها البقاء على قيد الحياة لأبدعت زخما فياضا من الروايات والمسرحيات". و المأساة إنما تتمثل فى أننا لن نسمع مستقبلا شيئا آخر من راشيل كوري
عن موقع العرب أون لاين
http://www.alarabonline.org/index.asp?fname=\2005\06\06-15\446.htm&dismode=x&ts=15/06/2005%2004:39:21%20م